معنى الشهادة في سبيل الله

مفهوم  الشهادة في سبيل الله 


يُطْلِقُ جميعُنا كلمة (شهيد) على القتيل، غير أن الكثير يمر عليها مرور الكرام، ولا يحاول أن يتعرَّف عليها، ولا على دلالاتها الحية في الواقع العملي، فما هي الشهادة؟ ومن هو الشهيد؟ ولماذا أُطْلِقَ عليه هذا الوصف؟ وهل معناه الحاضر للمشهد أو المؤدي للشهادة؟ وهل ذلك في الدنيا أم في الآخرة؟ وهل تُفتَح للشهيد قنواتُ التعرف والحضور من مقامه الكريم إلى واقعه الذي استُشْهِدَ فيه؟ هذا وغيرُه ما ستحاول هذه المقالة الإجابةَ عليه


(شهد) في اللغة العربية والقرآن الكريم

وردت مفردة (شهد) في اللغة العربية وفي القرآن الكريم على معنيين:

المعنى الأول: الحضور، ومنه قوله تعالى: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة: 185)، وقوله تعالى: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النور: 2)، وقوله تعالى: (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) (الإسراء: 78)، وقوله تعالى: (وَبَنِينَ شُهُوداً) (المدثر: 13).

والمعنى الثاني: خبرٌ بشهادةٍ منبِئة عن حضورٍ أو علمٍ ببصرٍ أو ببصيرة، قال تعالى: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران: 18)، وقوله تعالى: (وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (التوبة: 107)، وقوله تعالى: (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ) (يوسف:26)

ويتبين أن بين المعنيين ارتباطا هاما، وبعبارة أدق، يتبين أن المعنى الثاني يتركب من المعنى الأول وزيادة، أي من الحضور، وهو تحمل الشهادة، ومن القول بها، وهو أداؤها، وهذا يرجّح أن الشهادة في جذرها الأصلي تعني الحضور، باعتباره أساسا هاما في الشهادة بمعنى الإدلاء أو الإخبار بما علمه الشاهد، فالكثير فرع عن القليل

فإذا انتقلنا إلى العرف الشرعي لكلمة (شهادة)، وجدنا أنها تطلق على ما يدلي به الشاهد من معلوماتٍ قاطعة رآها أو سمعها، أو تحملها عن حضورٍ قطعي للمشهود فيه، كما وجدنا أيضا أنها باتت تطلق عرفا إسلاميا عاما على القتيل في سبيل الله؛ حيث أطلقت منذ أول الإسلام وإلى يومنا هذا على (القتل في سبيل الله)، وأطلق وصف (شهيد) الذي يُجْمَعُ على (شهداء) على (القتيل في سبيل الله)، وصار هذا مفهوما مجمَعا عليه بين المسلمين جميعا، منذ صدر الإسلام وإلى يومنا هذا


وهذا لا يعني أن هذا المصطلح (الشهادة ومشتقاتها) لم يرد في القرآن الكريم على القتل في سبيل الله بأي حال من الأحوال، ولكن نريد البحث عنه بعيدا عن التسليم بهذه المسألة ليتم الإثبات أن إطلاق وصف الشهيد على القتيل في سبيل الله بأدلة وحيثيات أخرى، تبيِّن وتبرهن أن من ورد في قوله تعالى: (ويتخذ منكم شهداء) قُصِد بهم شهداء القتال في سبيل الله


الشهادة في اللغات والثقافات والأديان الأخرى


من العجيب أن الكثير منا يجهل معنى كلمة (شهيد) ومصدرها اللغوي، وامتداداتها المختلفة، بينما هي أمر معروف لدى كثير من اللغات والثقافات والأديان الأخرى، فالشهيد في اليهودية والنصرانية هو ذلك الشخص الذي يعذَّب أو يقتل في سبيل دينه، أو من أجل تعليم من تعاليمه

وإذا أخذنا في هذا الصدد من اللغات الإنجليزية على سبيل المثال ، نجد أن الشهادة هي (Martyrdom)، وأن الشهيد هو (Martyr) الذي يفسَّر في معاجم اللغة الإنجليزية بأنه الشخص الذي يضحي بنفسه، فيُقْتَل أو يعذَّب من أجل معتقداته الدينية، أو الإنسانية، أو القومية

وتزعُم بعضُ تلك المعاجم أن أصل هذه الكلمة مأخوذة من اللاتينية، والتي تعني الشاهد (the witness)، والشاهد هو الحاضر، الذي يتحمَّل مضمون الشهادة التي سيدلي بها لاحقا

وعلى الرغم من التشابهِ الكبير بين العربية والإنجليزية إلا أن بعض الباحثين يجادل بأن للشهيد في اللغة العربية وفي الدين الإسلامي خصوصية معينة، لا توجد في تلك اللغة، ولهذا يوجب هذا البعضُ على المترجمين من العربية إلى غيرها من اللغات أن ينقلوا كلمة (شهيد) إلى اللغة المترجم إليها كما هي، بدون استعمال لفظة (Martyr) التي تقاربها


العلاقة بين المعنى الشرعي واللغوي لكلمة شهادة


يترجح لديَّ أن الإطلاق الشرعي لكلمة شهيد على القتيل في سبيل الله جاء منسجما مع الوضع والإطلاق اللغوي؛ فالقتيل في سبيل الله هو ذلك الذي حضر الموقف الحق، وشهد به وفيه شهادةً عمليةً، وهي الشهادة بماله ودمه وروحه، وهي أقوى من الشهادة القولية، وبالتالي فإنه يصدُق عليه أنه شاهد، ويصدُق على موقفه أنه شهادة، وأنه لقوة ذلك الموقف، ولتكرُّره، ولفضله، ولخصوصيته، اختص باشتقاق (شهيد) على وزن (فعيل) الذي هو أحد صيغ المبالغة ومن أسماء الفاعل في اللغة العربية

وإذا كان الله قد نهى عن الإضرار بالشهيد بسبب شهادته واعتبره فسوقا، حيث قال: (وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) (البقرة: 282)، فإن هذا الشهيد قدّم شهادته العملية على موقف الحق بأعلى درجات الحضور، وفي أعلى درجات الاستعداد لتبعات ذلك الحضور، وتبعات تلك الشهادة، لقد قدم روحه التي هي آخر ما يمكن أن يطاله إضرار الغير

ولعل الله الكريم جازى الشهيد بأضعافِ ما قدَّم، فإذا كان الشهيد قدَّم روحَه بأن تنازل عن حضوره الزائف في الدنيا من أجل الله وفي سبيله، فإن الله أكسبه الحضور القوي والخالد والثابت في الآخرة، وهيأ له مقام الشهادة العظيم

ارتبطت الشهادة إذن بعملية الموت قتلا، ولهذا لا تُطْلَق الشهادة على مَنْ حضر الموقفَ الحق إلا إذا قتِل فيه، فلا تُطلَقُ على المجاهد الذي حضر المعركة وقاتل فيها ولو أبلى بلاء حسنا؛ ذلك لأنه لم يلج باب الخلود والحضور الحقيقي؛ لأن حضوره المجازي في الدنيا، وهو البقاء في الدنيا، منَع عليه الحضورَ الحقيقي والكامل في الآخرة؛ لأن الشهادة هي الحضور القوي والفاعل في عالم الحقيقة وهو العالم الأخروي، ولا تكون إلا لمن اختاره الله شهيدا، وطاله القتل في سبيل الله ومن أجل إعلاء كلمة الله


مظاهر حضور (شهادة) الشهيد في الدنيا والآخرة

إن أكثر ما يقلق الإنسان هو فقدانُ حبيبه، وغيابُه عنه، وهذا أمرٌ مؤسِف بالفعل في حالات الموت العادية، وفي حالات الموت بالقتل الذي ليس في سبيل الله، ولكنه بالنسبة للقتيل في سبيل الله أمر مختلف تماما؛ فقد بين القرآن أن الشهيد لم يغِب، وأنه حي يُرزَق، وحاضر، شاهد، مطَّلع، يستبشر، ويفرح

لقد شدد القرآن الكريم أن الشهيد حي، فنهى عن القول بأن الشهداء أموات، وأكد أنهم أحياء وإنْ بدون شعورٍ حِسِّيٍّ منا بحياتهم، قال تعالى: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ) (البقرة:154)، وفي الآيات الأخرى نهى الله تعالى عن حسبانهم أمواتا، وأكد أنهم أحياء، بل عدَّد بعض مظاهر الحياة التي يحيونها في مستقرهم الذي اختص الله به؛ قال تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ . يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) 


شهادته في الآخرة

إذا كانت الشهادة في الدنيا مجردَ تحمُّل للمضمون، وهي مجرد حضورٍ فاعل ولاقط للحقيقة التي لم يُفصَل فيها بعد، فإن الشهادة في الآخرة ستكون من خصوصيات الأنبياء ومن يدانيهم في المقام والفضل، وليس أولئك إلا الشهداء، والشهادة التي يمكن اقتباس تعريفها من تعريف الراغب الأصفهاني بأنها "قول صادر عن علمٍ حصل بمشاهدة بصيرة أو بصر"، وذلك ما تناولته الآية الكريمة التي تقول: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (الزمر:69)، حيث تبيَّن أن هناك صنفين من البشر سيؤتَى بهم يوم القيامة للفصل فيما شجر بين الناس، إنهم الأنبياء والشهداء فقط، ولا يجمع بين هذين الصنفين سوى أداء الشهادة، والقول بها، بحسب ما تحمَّلوه من حقيقة في الدنيا، يقول الله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً) (النساء:41)، ويقول في الآية الأخرى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء) (النحل:89)

وبهذا يتبين أن (شهداء) في قوله تعالى: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران:140)، هم شهداء المسؤولية، وشهداء الموقف الحق، والحضور الفاعل، الذين قتِلوا في سبيل الله، بدلالة اتخاذ الله لهم، واختياره إياهم، وكونِها جاءت في سياق ذكرِ الآلام والعناء الذي طال المسلمين في غزوة أحد، وفتحِ آفاق الآمال لديهم، بعد تلك الوقعة الأليمة.

                                                     

                                                             اتمنى لكم الافاده

تعليقات